حوار الواقعية والتجريد في الفن التشكيلي العراقي

بالوقت الذي يعد فيه الحوار الثقافي في الفن التشكيلي ظاهرة صحية تساهم في تنمية بنية الفن والتلقي ووسائل العرض والتداول , فان الحكم الاحترافي يكون لازما بما يضبط اطلاق المواقف النقدية القادرة على فك الاشتباك والتداخل بين الرأي الشخصي العاطفي و الراي المهني الاحترافي الاكاديمي المستند الى حقيقة ما يجري في التطبيق نظريا وعمليا , وفيما يخص الفن التشكيل العراقي وفضاءاته تتنامى محاولة تأصيل فكرة ان الفن المعاصر هو الفن الذي يختص باللاتشخيص و بات الامر يسوق على انه من المسلمات التي تفترض اتفاقا جمعيا ونقديا , وكثيرا ما يتم تصور او تصوير ان هذا هو واقع مايجري في عالم التشكيل المعاصر , وان الاستعانة او التعويل على الشكل والموضوع هو من المواد المعيبة المخلة بالقيمة الفنية في الاعمال المعاصرة , وان بعض هذه الاحكام تصدر من فنانين ونقاد لم تتح لهم فرصة الاحتكاك المباشر بما يجري في التشكيل العالمي و بما يكفي ليتسلحوا بالخبرات اللازمة لإطلاق الاحكام , كما ان البعض لم تتح له فرصة خوض غمار البحث الاكاديمي التخصصي كما ونوعا وكما يجب , ومع ذلك يتزايد اصدار هذه الاحكام وبثقة عالية بالافادة مما شاع في الثقافة التشكيلية العراقية من اللاابالية و عدم الرد على مايقال او على مايجري من ممارسات عملية بهذا الصدد , وان كثير من هذه الاحكام يصدر مستندا الى ما وصلت اليه تجارب فنية نشأت في حاضنة محلية صرف بعيدة عن حقيقية ما يجري في الفضاء التشكيلي العالمي الاوسع , شجع عليها النظرة الأحادية لما يجب ان يكون عليه الفن التي هي ظاهرة نقدية عراقية تسللت وتضخمت من تحكم ثقافة معينة في ظرف معين وترتب عليها خسارات كبرى لطاقات فنية مميزة ووصلت حد الاستهانة بانجازات تشخيصية مهمة في تاريخ التشكيل العراقي من مستوى منجز رائد مهم بحجم الراحل فائق حسن الذي يتم تصويره على انه رسام حصن بما يتضمنه ذلك من عدم المام بتفاصل كثيرة , وهنا نذكّران الفن التشكيلي كمنجز ابداعي يمتاز بتنوع اساليبه واتجاهاته التي لايقصي فيها احدها الاخر ولكل منها مادته ومنجزه كما وكيفا اسوة بكل الإنجازات الإبداعية المجاورة لانساقه , فيها البسيط المسطح المقلل والمعقد العميق , ولكل منها متاحفه ومريديه والتي تبين احصائيا ان الفن اللاتشخيصي عامة يشكل جزءا بسيطا غير منافس ,و ان منتجي الفن التشخيصي هم النخبة الأكثر صنعا لتاريخ التشكيل رغم كونهم نخبة محددة بسبب ما يتطلبه ذلك الجنس من التشكيل من مهارات قبلية ومكتسبة وادائية لا تتاح بالعادة الا لعدد محدد وليس كما يشاع عن إمكانية الجميع لتعلم تلك الاحترافية واكتسابها , وهو امر عايشناه عمليا وتطبيقيا عبر ثلاثين سنة في أجيال من مشاريع الفنانين , واحتكاك وتماس مباشر مع التجربة العالمية , كما ان التشكيل مثله مثل الشعر والموسيقى لا يمكن ان يكونه نتاجا عبثيا وناتجا عن المصادفة الا استثناء , بل هو متراكم مختبري مفاهيمي فكري يتطلب القصدية والوعي واجادة احترافية فكرية وتطبيقية تظهر منعكسة بجلاء في الموضوع والشكل وطرق اظهار عناصر الفن من الخط واللون واللمسة والتقنية والانشاء والسيناريو والمفهوم وهي محددات تزداد صرامة كلما تقدمنا في انتاج الفن حداثة ومعاصرة وتصبح اكثر يسرا على الفرز والقراءة من قبل الخبير المختص وليس كما يظن ويشاع او يراد به عكس ذلك حيث يجري الاعتداد بما يصدف من منجز– حيث ان فرصة ولادة عمل تشكيلي بالصدفة تشبه فرصة ولادة قصيدة من حروف متساقطة مبعثرة او ولادة لحن من أصوات عشوائية , يفصل في ذلك قصدية الفنان و حضور السيناريو الفني الذي يشكل الجزء الحاسم في كون العمل فنا ام وسيلة إيضاح سواء اكان العمل تقليديا ام حديثا ام معاصرا حيث تحول السيناريو من المباشر الموثق للحوادث الى الصانع الخالق للحادث بفعل حضور المفهوم حيث تتشكل بنية العمل الفني الاحترافي مهما كان تحقيبه وتحقيله لايفرق في ذلك اكان تشخيصيا ام مختزلا , وهو الامر الذي ثلم حتى الصفة المطلقة للتجريد يوم احيل التجريد الى محاكاة الصور غير المرئية كالمربع الافلاطوني الاكمل من المربع المادي الهندسي الممكن .,وهنا يبدو اننا امام منظومة تداخل ولبس في فهم ماينتج في الفن المعاصر تاريخيا ونقديا , فالنسبة الغالبة من الفنون التشكيلية في العالم هي الفنون التعبيرية الاختزالية والمحورة للأشكال وهي كللها تصنف على انها فنون تشخيصية ولا يشكل التجريد الا نسبة ضئيلة في هذا النتاج وليس صعبا البرهنة على ذلك , وان هذه الفنون الاختزالية التعبيرية انما هي فنون تشخيصية فرضت ومازالت تفرض سلطتها وحضورها خلال قرن من زمان التشكيل الحديث والمعاصر وان دوشامب وبيكاسو وموديلياني ودالي وارشيل غوركي وادوارد مونخ وجاسبر جونز وروشينبرغ و ديفيد هوكني واندي وارهول وبانكسي واندرو وايت وفرانسيس بيكون وريتشارد ايستيس السوبر واقعي وجوزيف كوزوث المفاهيمي وادورد هوبر وفائق حسن وجواد سليم وحافظ الدروبي ومحمد مهر الدين ومحمد علي شاكر وخالد الرحال ومحمد غني حكمت وإسماعيل فتاح الترك ومئات الأسماء العملاقة العالمية والمحلية انما هي لفنانين تشخيصيين وان لوحة الجورنيكا والساعات اللدنة والموناليزا بشوارب والمبولة – الينبوع – والصرخة وكريستينا الكسيحة وانتظار النهاية ونصب الحرية وتمثال القبلة الأميركي والاف مؤلفة من الشواهد الفنية العالمية التي انتجت ومازالت تبدع يوميا هي اعمال تشخيصية يتراجع امام زخمها المنجز التجريدي من ناحية الكم والكيف والقيمة المتحفية . وان اغلب المدارس والأساليب والاتجاهات الفنية هي مسميات لاتجاهات تشخيصية باستثناء التجريدية التي لم تصمد وتم تحويرها سريعا الى التعبيرية التجريدية لتكون قادرة على الاتساق مع الظرف الموضوعي للحضارة ,
كما ان الجزم بلا تشخيصية الإنجاز الفني واعتباره معرة انما هو إشارة على ان هناك لبس وخلط في الفصل بين التجريد والتبسيط والاختزال , حيث ان التجريد يعني الغياب التام للشكل والموضوع والعلامة والدلالة وهو امر لن يتحقق بسهولة بل انه لم يتحقق بشكله المطلق في الفن ابدا , او ان الصوت المحلي الاحادي الذي ابتكر أطروحة ان الفن المعاصرة تعني اللاتشخيص انما ابتكرها لانه يرى المعاصرة من هذه الزاوية المحددة الضيقة التي لايريد ان يعرف غيرها رغم ان يسر الوصول للمعلومة لم يبقي لاحد معذرة ,
الصور المرفقة هي نماذج لأشهر ما جرى ويجري بالعالم اليوم من نتاج متحفي يتم تغييبه اما لعدم الالمام بها او لغايات محددة مع سبق الإصرار والترصد في الثقافة التشكيلية العراقية لصالح اتجاهات تسعى جاهدة لتذويب النتاج التشكيلي العراقي ليتحول الى لوحة واحدة تنصهر فيها الاشكال والمواضيع والتقنيات وتتطابق بعض التجارب الشخصية فيما بينها تحول معها قسم من العروض الجماعية الى عرض متجانس من الاشكال المحورة الهلامية والتقنيات المضافة على السطح والاشكال الهندسية والخطوط المقحمة التي تتكرر وتتطابق وتتناسخ وتتناسل في عدد من الاعمال لعدد من الفنانين التي يتم عرضها متجاورة في كثير من المعارض بفعل تسلط القائمين على العرض لفرض مايعتقدون انه الاصوب والاجمل والأكثر فنا ومعاصرة على الذائقية العامة وعلى الفنانين خلافا لقواعد التنوع اللازمة للإنتاج الحضاري عامة من خلال فرض رؤية نقدية ذاتية لا أساس لها في عالم الفن الواسع


البروفيسور الدكتور سلام جبار
4 نيسان 2023